فتىً يُقالُ لهُ أحمــد … بقلم د/ أسماء الشهاري

مؤسسة الشهداء – كتابات

*الشهيد .كانت السماء تتزين كل ليلة شوقاً لتعانق روحه الطاهرة..

عندما تنظر إلى صورة الشهيد أحمد  حسين زبارة ، فإنك سترى فتىً في مُقتبلِ العمر و ريعان الشباب في ربيعه الثاني والعشرين تُحيطُهُ هالة نورانية و ستجد أنه ارتسمت على محياك ابتسامة عذبة من طلته البهية، و أكثر ما قد يدور بذهنك أنه شاب مؤمن شجاع جاهد في سبيل الله والوطن و نصرةِ المستضعفين حتى لقي الله شهيداً بطلاً في ساحات الفرسان الخالدين.

لكنك إن غصت في أعماق شخصيته و تتبعت سيرة حياته فستجد أنَّ تلك السنوات القليلة التي عاشها أحمد تحمل في طياتها رجلاً مجاهداً عظيماً و شخصيةً استثنائية.. و أنَّ الشهيد أحمد حقق في تلك السنوات ما قد لا يحققه غيره الكثير من الناس في عشرات السنين.. و يرجع السبب في ذلك إلى قوة الإيمان والهدف  وَوضوح الرؤية و المنهج وعدالة القضية التي بذل حياته لأجلها.

كان أحمد طيب اجتماعي و محبوب بشكل كبير و كان خدوما فلا يتأخر عن تقديم كل ما يستطيع لمساعدة الآخرين سواء كان ذلك في عرس أو عزاء أو غير ذلك.. و بالإضافة لذلك كان يتمتع بدرجة عالية من الذكاء و حب العلم و كلية الهندسة كانت حلمه الذي يتمناه، بيد أن هناك حلماً آخر قد تملك قلبه وكل جوارحه و هو الجهاد في سبيل الله و نصرة الحق فعزف عن الحلم الأول و كان يواسي والدته بقوله :هناك أشخاص يدرسوا الآن و نحن علينا أن نجاهد ثم سندرس فيما بعد وهم يجاهدوا.

لم تكن انطلاقة أحمد القوية في الطريق الذي يؤمن به سهلة على والديه في البداية خوفاً عليه من المخاطر التي تحف هذه الطريق.. لكن أحمد بروحه المؤمنة وبوعيه العالي و حجته القوية استطاع أن يكسب رضاهما بل و تشجيعهما له فيما بعد بكل ما أمكن و بذل كل ما يستطيعون على ذات الطريق.

و بهذه الروحية العظيمة و البصيرة النافذة استطاع أحمد أن يتملك قلوب كل من عرفه وبالإخلاص والشعور الكبير بالمسئولية و الهمة العالية استطاع أن يتسلم زمام أهم الأعمال وأن يقودها بكل اقتدار على الرغم من صغر سنه.. فالعمر الفعلي للإنسان يقاس بأفعاله و ليس بعدد سنينه فقط.

و في هذا المجال بعد أن أخذ أحمد دورات تدريبية ثقافية وعسكرية في صعدة و صنعاء كان يقوم بتدريب المجاهدين و يشرف على ذلك بنفسه وأيضاً فإن تفانيه في الأعمال الموكلة إليه إضافةً إلى أمانته و نزاهته التي كان مشهورا جداً بها وكان الجميع يستشهد بها فإن كل هذا جعله جديراً بأن يترأس التموين العسكري وأن يكون مدير منشأة مديرية شعوب فقد كان المسئول عن إيصال المدد والمؤنة للمجاهدين و أيضاً كان يقوم بإيصال المجاهدين إلى الجبهات كجبهة تعز و الضالع و مأرب وغيرها من الجبهات.. و عند عودته كان يرابط في نقاط صنعاء ويسهر الليالي حتى بدأت أسفل قدماه تتقيح من شدة البرد لأنه كان يعاني من التشققات.!

كان الشهيد يتمتع بشهرة كبيرة في منطقته و له أهمية كبيرة و يحكي عنه الكثير من الناس و يحبه الكثير و يعتبرونه مثلاً أعلى يقتدى به و بنزاهته و تضرب بأمانته الأمثال و على الرغم من كل ذلك فقد كان شخصاً مبتسماً كتوماً و متواضعاً فلم يكن يحب التفاخر بمنصبه بل إن أهله لم يكونوا يعرفوا إطلاقاً ماهي طبيعة عمله ولم يعرفوا عن ذلك إلا قبل استشهاده بفترة قصيرة ومع أعماله ومسئولياته الكثيرة كانت زياراته قليلة إلى المنزل و كل كلامه خلالها يتمحور حول الحث على الإنفاق و النصح و التوعيه التي كانت تترك أثراً كبيراً في نفوسهم كغيرهم ممن كانوا يعرفونه و يتأثرون بأفعال الفتى الشاب وأقواله.

و من القصص التي تدل على مدى حب أصدقاءه و جيرانه و أبناء منطقته له و تأثّرهم به أنه عندما غاب ذات مرة لمدة شهر بغرض التدريب قاموا باستقباله بالبرع و أن السيارات سدت الشارع المقابل لمنزله وهم يحتفون بقدومه عند عودته.

و من قصصه أيضاً أن أهله ظلوا شهرا كاملا بدون غاز كما تحكي والدته حيث كانت تعد الخبز باستخدام الحطب وكان أخوه يلتزم الانتظام بالطابور كما البقية على الرغم من أنه كان المسئول على توزيع الغاز للناس في منطقته حينها.

على الرغم من كل المهام و المسئوليات التي كانت ملقاه على عاتقه و من مشاركته في القتال في ميادين الكرامة عددا من المرات لكن روحه ظلت متعطشة لتلك الميادين وقلبه ظل معلقاً بها.. و بداعٍ من الحب و الخوف حاولت والدته أن تمنعه من الذهاب إلى الجبهة و أخبرته بأنه يقوم بواجبه الجهادي كما أن لديه المركز هنا، لكنه رد عليها بأنه لا يريد مركز ولا أي شيء آخر فقد باع نفسه من الله و في سبيله كما أخبرها أنه لا يجوز لأي رجل مقتدر أن يتخلف عن جبهات الفداء وأنه مؤاثم إن فعل ذلك خاصة مع كل ما يحصل من قتل و جرائم بحق الأبرياء،  ولإيمانها و ارتباطها بالله و حبها لوطنها فإنها لم تمنعه بل ذهب تحوطه دعواتها وصلواتها.

توجه أحمد إلى جبهة مأرب مع الفصيل الذي قام هو بتدريبه و انتقاء المجاهدين فيه حتى أن أحد المجاهدين في جبهة تعز عندما علم بأن أحمد زبارة هو المشرف عن الفصيل و أنه متوجه إلى جبهة مأرب سارع بالانضمام إليه من حبه له و معرفته به.

كانت لأحمد زيارة واحدة إلى أسرته بعد توجهه إلى جبهة مأرب لكي يحضر خطبة شقيقته التي اشترطت وجوده صلى فيها الفجر مع والدته و ظل يحدثها عن الإيمان والصبر و التضحية في سبيل الله والوطن.. ثم عاد مسرعاً إلى محرابه المقدس يسبقه الشوق إليه.

بعد اسبوعين من عودته إلى الجبهة حصلت زحوفات كبيرة من قبل الأعداء والمرتزقة فتدخل الفارس المقدام بفصيله للمواجهة باستبسال وشجاعة منقطعة النظير.. مما أتاح الفرصة لأعداد كبيرة من المجاهدين بالانسحاب تبعا للتعليمات حيث كانوا محاصرين و قد نفدت منهم المؤنة بمن فيهم شقيقه الوحيد الذي كان في صفوف هؤلاء المجاهدين..

قاتل أحمد بكل شراسة وبسالة هو ومن معه وعمل في الأعداء القتل والتنكيل كما ذكر ذلك شهود العيان. و عندما انتهت طلقاته النارية قام باستخدام الخنجر و ظل يقاتل بكل ما أوتي من قوة حتى لقي الله شهيداً مجيداً.

استشهد و أُسر من فصيل أحمد الكثير بعد أن أوغلوا قتلاً وتنكيلاً بالمرتزقة ومن ورائهم، وفور استشهاده أسرع المرتزقة يبحثون بين الشهداء بكل نَهم عن جثمانه الطاهر لكي يأخذوه كغنيمة و صيد ثمين فكان لهم ذلك بعد أن ذاع صيته وبعد أن أمعن في تقتيلهم و التنكيل بهم.

و في مشهد آخر تلقت أسرته المؤمنة خبر استشهاده بكل صبر وإيمان عاملين بوصيته ومتذكرين لكلماته الخالدة.

فها هي والدته تقول عندما جاءت النسوة لتعزيتي كنت أشعر أنني ملكة و أشعر بالسعادة والفخر و لبست ثياباً خضراء ولم أشعر بأنهن جئن لتعزيتي بل لتهنئتي والمباركة لي بشهادة ابني في سبيل الله والوطن والكرامة و أنه أصبح في الجنة..

بعدها وصلت بعض الشائعات عن كون أحمد ربما أنه تم أسره ولم يستشهد فقامت الأم المؤمنة بقراءة القرآن ليدلها الله على حقيقة ما صار إليه، و بفضل الله و كتابه العظيم استطاع المجاهدين الحصول على جثمانه الطاهر بعد 17 يوم من استشهاده وتم ايصاله إلى أحد المستشفيات و أحضروا لوالدته الصندوق الذي سيزف فيه الشهيد فقامت مع شقيقاته بتزيينه و تعطيره و تبخيره بالعودة واشترطت عليهم أن يُدخلوا الصندوق إليها قبل تحرك الموكب العظيم كما اشترطوا عليها ألّا تطلب رؤيته لكون الجثمان الطاهر قد تغيّر لمرور سبعة عشر يوماً و لتمثيل المرتزقة به فقبِلت بذلك.

تقول والدة الشهيد  أحمد حصل على عرسين وليس عرس واحد، فقد جاء الناس للمباركة مرة ثانية.
و عن شعورها عندما تم إدخال الصندوق إليها تقول والدته :عندما أدخلوا الصندوق إلي شعرت أني ملكة في قصر لا يوجد فيه أحد من الناس على الرغم من امتلاء البيت بالناس حينها وشعرت أن أحمد دخل علي كأنه أمير وقلت بصوت مسموع :حيّا بالأمير الذي جاء ليسلم على أمه ثم ليذهب إلى زوجته.

تحرك الموكب الملكي المهيب بأعداد كبيرة من الناس و السيارات حتى الخيول حضرت و تم إطلاق الأهازيج والبرع حتى إن الكثيرين قاموا بلبس قمصان تحمل صورة الشهيد الذي كان معروفاً بطيبه و أخلاقه.

أخبرتني أم الشهيد البطل أحمد أن ابنها شقيق أحمد الوحيد طه في جبهة مأرب الآن و تقول :أناشد كل أم أن تحث أبناءها على الجهاد وإن لم نسمح لهم بالشهادة في الجبهات فسوف يموتوا في البيوت .
و عن لوم بعض النسوة لها من سماحها لابنها الثاني بالجهاد ونعتها بأنها متحجرة القلب بعد استشهاد أخيه ولم يعد معها غيره من الذكور تقول لولا الله و الإيمان لما صبرنا، وتقول لهن: دعوه يختار طريقه لن أمنعه من أن يذهب إلى الجنة عند أخيه فالدنيا قصيرة.!

فأنا دائماً كنت أدعوا الله سبحانه و أقول :اَللّـهُمَّ إني وكلت أمر أولادي إليك فاختر لهم ما فيه الخير.. فعندما انطلقوا في سبيل الله عرفت أنه الخير الذي اختاره الله لهم و هيّأ لهم ذلك.